د . مهيب صالحة

يرزح العمران السوري تحت وطأة الدمار والخراب حيث لم يبقَ حجر على حجر إلا وطاله التدمير الممنهج الذي شاركت فيه بالتنفيذ وبالتواطؤ كل الأطراف الداخلية وخوارجها الإقليميين والدوليين . وتتوقع بعض التقديرات أن حجم تكاليف الدمار والخراب في سوريا يتجاوز تريليون دولار وأن حجم أعباء إعادة إعمار إسعافية لتأمين البنية الأساسية في المدن والبلدات المدمرة وسبل الحياة البسيطة فيها يتجاوز 300 مليار دولار . عدا عن ذلك فإن فرص استثمار الموارد الطبيعية السورية التي حرم منها الشعب السوري لعشرات السنين خلت من نفط وغاز وثروات معدنية ، وكذلك فرص استثمار الطبيعة المتوسطية والتاريخ الغني بالأوابد والتراث والفلكلور كلها تثير شهيات الدول وطغمة من المتمولين السوريين القريبين من السلطة ومركز القرار فيها .

تدعي الحكومة السورية عند إقرار كل ميزانية منذ سنة ٢٠١٦ أنها تباشر عملية إعادة إعمار في بعض المدن المدمرة كحلب وحمص ودير الزور .. إلا أن نواياها  تفتقد للخطط والاستراتيجيات والعقلية التنموية ولا تتعدى كونها خطوات ارتجالية خجولة يراد منها الترويج لمكاسب سياسية داخلية . لكنها في المقابل وقعت عقوداً طويلة الأجل لاستثمار موارد سوريا الطبيعية والعقارية مع كل من روسيا وإيران ، نفط وغاز وفوسفات وشواطئ ومشاريع عقارية في العاصمة والمدن السورية الأخرى ، قبل الإعلان عن تسوية سياسية للصراع أو نهاية الحرب في سوريا ، وذلك من قبيل ضمان تسديد فواتير باهظة الثمن قدمتها روسيا وإيران من أجل تثبيت دعائم الحكم القائم التي كادت تنهار أكثر من مرة لولا الدعم اللامحدود من قبل الطرفين الروسي والإيراني اللذين في كل مرة يتنافسان من منهما ثبت دعائم الحكم دون غيره في سياق التذكير بمحاصصة إعادة الإعمار .

إن تقديم روسيا ملف إعادة الإعمار واللاجئين على ملف الحل السياسي تريد منه استباق الحلول السياسية لإراحة وضعها في سوريا وضمان حصولها على حصة تناسب حجم دورها الكبير في تثبيت دعائم حكم الأسد . ولكنها تدرك أن لا أحد من المحور الآخر الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية سيقبل المساهمة في إعادة إعمار تتفرد روسيا للتخطيط لها ، أو تقودها ومعها إيران ما لم يعد الجميع إلى طاولة مفاوضات جنيف وتقاسم الكعكة السورية معاً . ولم يكن إعلان الخارجية الأمريكية عن نية إدارة ترامب البقاء في سوريا حتى القضاء نهائياً على داعش وإتمام الحل السياسي سوى رسالة تحذير للقيادة الروسية بأن أي اتفاقات أو عقود تخص إعادة الإعمار مع الحكومة السورية الحالية لا محل لها من الإعراب طالما لم تتفق الأطراف على شكل وجوهر الحل السياسي وعلى حجم تمويلات إعادة الإعمار ونوعية المشاريع وتوزيعها والجهات المانحة ونوعية المنح وشروطها ولاسيما أن لا روسيا ولا إيران بمقدورهما ، معاً أو منفردتين ، تغطية متطلبات إعادة الإعمار الباهظة في ظل ما تعانيان من أزمات اقتصادية داخلية خانقة تلعب العقوبات الأمريكية دوراً أساسياً في تأجيج نارها ، وتأتي أزمة الاقتصاد التركي ، وتركيا شريكة لروسيا وايران في أستانا ، بسبب عقوبات أمريكية لتزيد الطين بلة على نوايا روسيا وإيران تعجيل إعادة الإعمار قبل الحل السياسي من قبيل الشعور الكاذب بالانتصار الحاسم مع رشوة تركيا في شمال غرب سوريا لمواجهة ما تظن أنه مشروع كردي انفصالي تدعمه الولايات المتحدة الأمريكية شمال شرق سوريا وتخشى كل من روسيا وإيران من انتقال عدواه إلى الكرد في جنوب روسيا وفي شرق إيران .

إن روسيا وإيران تستخدمان ملف اللاجئين في سياق المناورة في ملف إعادة الإعمار ، وكلتاهما تدركان أن لا عودة للاجئين والنازحين قبل إعادة إعمار إسعافية تجعل الحياة مواتية في ديارهم هما غير قادرين على تأمينها لوحدهما ولا رهانهما على الصين يحل عقدتهما الشائكة لأن الصين تنأى بنفسها عن أي صراع مع الولايات المتحدة الأمريكية ليس وقته الآن واقتصادها الثاني في العالم مسؤول عن حياة مليار ونصف من البشر ويعيش زهوة ازدهاره . ومن جهة ثانية لا روسيا ولا إيران تمتلكان القدرة أو المعطيات أو فاعلية القرارات في ملف اللاجئين الذين لم تستقبل أياً منهم على أراضيها ، ولا تمتلكان أي تأثير على حكومات الدول المضيفة . إن ما تثيره روسيا حول ملف اللاجئين وإعادة الإعمار ما هو سوى زوبعة في فنجان تريد منه تسجيل بعض النقاط السياسية على أمريكا وحلفائها في سوريا من بوابة الحرص على الجوانب الإنسانية وهي التي انتهكتها منذ تدخلها السياسي والعسكري في سوريا . أما ايران التي تفقد أوراقها الواحدة تلو الأخرى في مواجهة استراتيجية إدارة ترامب نحوها فإنها تلعب بورقة اللاجئين وإعادة الإعمار لتفتح طاقة تعاون مع أمريكا عبر جدار تردد أوروبا الانسحاب من الاتفاق النووي وهي المعنية أكثر من غيرها بملف اللاجئين .

إن الرد المباشر من التحالف الدولي الذي تقوده أمريكا في سوريا بتقديم منح بملايين الدولارات لإعادة الإعمار في المناطق التي تحررت من داعش والمقصود مناطق الإدارة الذاتية شرق الفرات من منبج حتى شرق دير الزور ومساهمة دول عربية ، السعودية والإمارات فيها ، ربما يثير شهية تركيا وحليفتها قطر لتمويل إعادة الإعمار في مناطق غرب الفرات ما يثير مخاوف الحكومة السورية وحليفتيها روسيا وإيران من خطر تقسيم سوريا .

والسؤال الأبرز في هذا السياق : ما الذي يجعل الولايات المتحدة الأمريكية تعترض على تقديم ملف اللاجئين وإعادة الإعمار على الملف السياسي في الوقت الذي تغطي فيه تقديمات مالية لإعادة الإعمار وإعادة النازحين لمناطق تحررت من داعش شرق الفرات ، وهي التي غطت من قبل تفرد روسيا وإيران وتركيا بالملفين الميداني والسياسي في أستانا وسهلت لهم تعطيل مفاوضات جنيف ؟؟؟!!!

لقد كان بمقدور الإدارة الأمريكية السابقة والحالية الضغط على جميع المتدخلين والفاعلين في الملف السوري وعلى أطرافه الداخليين للجلوس إلى طاولة مفاوضات تنتج تسوية سياسية قررها بيان جنيف ـ ١ والقرار ٢٢٥٤ لكن الإرادة الإسرائيلية كانت أقوى من كل الإرادات الفاعلة على الأرض إذ أن المزيد من الخراب والدمار في سوريا وتهتك نسيجها الاجتماعي يزيد من أكلاف إعادة الإعمار على مستوى البشر والحجر مما يؤخر قيامة سوريا لعقود قادمة من الزمن وربما يعجل بصفقة القرن على حساب الحقوق الفلسطينية والعربية ومن ضمنها الجولان السوري المحتل. عدا عن كون عملية إعادة إعمار طويلة ومكلفة وصعبة تثير شهية المصارف والشركات العالمية التي يشكل رأس المال اليهودي عماد وجودها وقوتها . ولا يغيب عن البال أن رأس المال اليهودي المتعولم له أذرعه في الشركات الروسية المحتملة في عقود إعادة الإعمار وأيضاً الصينية . ومن جهة ثانية فإن الولايات المتحدة الأمريكية في أية عملية إعادة إعمار شاملة ستكون الشريك الأكبر من خلال أذرعها الرأسمالية في الرساميل العالمية والمزود الأول لكل الشركات العالمية بالخدمات المالية والمصرفية والتقانية والمقرر المالي نيابة عن دول المال الخليجية .

إن تهديد الرئيس السوري باللجوء إلى أصدقائه من دول البريكس لتمويل وتنفيذ عمليات إعادة الإعمار لا يمكن أن يتجاوز الحد الفاصل بين خياله والواقع إلا بحدود ما يمكن أن تتجاوزه دول البريكس بين واقعها والخيال في علاقتها مع الغرب وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية ورغبتها أو قدرتها حالياً على ربط نزاع اقتصادي معها من أجله أو من أجل نظامه إذا رفض الجلوس إلى طاولة المفاوضات لإنتاج حل سياسي برعاية مجلس الأمن الدولي . إن معطيات الاقتصاد الدولي المتعولم تتجاوز تفاصيل إعادة الإعمار السورية التي تكمن فيها كل  الشياطين التي ساهمت بصنعها الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل من خلف الكواليس الروسية الإيرانية التي تتكوم فيها تكلفة خراب العمران السوري الكلية دونما قبض أثمانها المتوقعة على أرضية انتصار متوهم .

من هنا ، تقديم ملف اللاجئين والنازحين وإعادة الإعمار على ملف الانتقال السياسي في سورية هو أشبه ما يكون بوضع عربة بلا عجلات أمام حصان متهالك إذ أن البشر حتى يعودوا إلى ديارهم التي نزحوا وهجروا منها بسبب الخراب والدمار ونزيف الدماء لا مناص أولاً ، وقبل كل شيء ، من البدء بملف الحل السياسي المستدام عبر مفاوضات ترعاها المنظمة الأممية لتأمين الاستقرار السياسي والاقتصادي المناسب لعملية إعادة إعمار وطنية شفافة تعتمد على الميزات النسبية للموارد البشرية والطبيعية السورية ومنح ومساهمات الدول والمنظمات الدولية . إنه لمن مصلحة الشعب السوري والدولة السورية البدء بعملية إعادة الإعمار هذه بعد تسوية سياسية يرضى عنها الجميع وإعادة هيكلة الدولة ومؤسساتها ووضع استراتيجية وطنية لإعادة الإعمار وعودة اللاجئين والنازحين بالتزامن معها . أما تثبيت مناطق نفوذ للدول المتدخلة والفاعلة وبدء إعادة إعمار جزئية فيها مع إعادة جزء من اللاجئين والنازحين إليها فهو بدون أدنى شك عملية ارتسام لخطوط التقسيم في المدى المنظور وربما البعيد في الذهنية السورية ، لا تقل خطورتها عن خطورة التقسيم ذاته .

من هذا المنطلق تعتبر استراتيجية روسيا بإعادة اللاجئين والإعمار في سوريا قبل أي حل سياسي تتفاهم حوله مع الولايات المتحدة الأمريكية في مجلس الأمن الدولي استراتيجية إنقاذ تخفف من تبعات تورطها طويل الأجل في سوريا . فروسيا ليس من مصلحتها دفع قيمة كمبيالات باهظة بخصم مؤجل ، وكلما قلصت مدة الاستحقاق كلما وجودها في سوريا يصير مقبولاً أكثر من شعبها ، وتصبح حصتها من كعكة إعادة الإعمار مقبولة ـ دفع أقل قبض أكثر ـ وبرأيي لن تبتعد روسيا كثيراً في الملف السوري عن الولايات المتحدة الأمريكية لا في ملف اللاجئين وإعادة الإعمار ولا في ملف الحل السياسي ولا في مسألة إضعاف دور كل من ايران وتركيا ، والمسألة تبقى مسألة وقت ونضوج مواقف ورسم استراتيجيات مشتركة .

إن كعكة إعادة الإعمار السورية عندما تنضج في قِدْر المصالح الدولية وعلى نار قد هدأت في سوريا سوف تفتح شهيات الدول المفجوعة حتى يبلغ فجعها مستويات تسرع نضوج الحل السياسي الذي يمهد الطريق لنضوج الحلول الأخرى .