Tev-Dem

تركيا لن تكون حليفا مخلصاً للعرب

375

د سالم حميد

تركيا لن تكون حليفا مخلصا للعرب مهما تقربت إليهم باسم الدين والإسلام السياسي والسياحة، وكذلك عبر الدراما التي اخترقت وسائل الإعلام، وتحولت إلى مورد اقتصادي وأداة لاختراق المجتمعات العربية ثقافيا.

وهم الخلافة مجرد نزوة في رأس أردوغان
لن تكون تركيا حليفا مخلصا للعرب لأسباب كثيرة، أبرزها أن الماضي خير شاهد على الفشل التركي في بناء جسور تفاهم بين العرب والدولة العثمانية، رغم وجود القاسم الديني الإسلامي المشترك. فما الذي يتذكره المؤرخ العربي من الوجود العثماني في الخارطة العربية سوى فنون التعذيب الوحشي وسلب الخيرات ونشر الفقر والجهل والإصرار على سياسة الغزو بجحافل من الانكشاريين.

وغالبا لم يكن الجنود الأتراك يجيدون التفاهم مع الشعوب الأخرى، وعكست تصرفات قادتهم أيضا الروح العنصرية التركية والتعالي الذي لم يكن له أي مبرر، وخاصة أن الدولة العثمانية لم تتميز بالعلوم ولا بالاكتشافات ولا بالثقافة، بل بالمجازر والاحتلال وسرقة خيرات الشعوب الأخرى.

لذلك سقطت الدولة العثمانية بعد أن دخلت مرحلة الشيخوخة واستنفاد الأكاذيب، وبعد أن تم وصم تواجدها الإكراهي في المنطقة بالاحتلال. وانسحب الأتراك منهزمين مخلفين وراءهم مقابر لجنودهم ظلت الأصابع العربية تشير إليها باسم مقابر الغزاة.

رغم كل ما سبق إلا أن جماعة الإخوان وأنصار الإسلام السياسي المسحورين بأيديولوجيا الماضي لا يكفون عن الترويج لتركيا وللخلافة العائدة المحمولة على أكتاف رجب طيب أردوغان.

ولا شك أن الصورة التلفزيونية الحديثة والتسويق الدرامي لشخصية أردوغان من الأمور التي لعبت دورا لا بأس به في صناعة الوهم التركي الجديد والمكرر في الوقت ذاته.

وكأننا نشهد إعادة لشريط التاريخ الذي كان الأتراك فيه أدوات فاسدة لتمييع الحضارة الإسلامية، وتحويلها إلى قشرة هلامية وإلى دولة مريضة تتمدد عسكريا باسم الخلافة، ثم تفشل في تحقيق تماس حضاري مع المجتمعات التي تغزوها، فتحولت إلى استعمار متخلف أشد وأنكى من الاستعمار الأوروبي الذي كان يتفاوت من حيث تأثيره وإسهاماته في نشر العمران وملامح الحداثة والبعثات التعليمية المحدودة.

أما الحضور التركي في منطقتنا العربية، قديما وحديثا، فإنه يقدم نفسه على الدوام بصورة مزرية تجعل الاستسلام لأكاذيبه من جديد حماقة لا تغتفر. وهذا هو الدرس الذي يجب أن يعيه المهللون للنفوذ التركي الذي يزحف بالتدريج ويحاول أن يجد له مرة أخرى موطئ قدم هنا وهناك.

لقد حاولت تركيا أن تتوجه بثقلها وأطماعها مجدداً نحو المشرق العربي، وعلى وجه التحديد منذ أن أيقنت بفشلها النهائي في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.

وكان الهدف من السعي للالتحاق بالمنظومة الاقتصادية الأوروبية تحقيق امتيازات للأتراك لا تزال تندرج في خانة الأحلام المستحيلة، وخاصة أن مئات الآلاف منهم يقيمون في دول أوروبية وفي مقدمتها ألمانيا، فيما لا تزال الهجرة إلى أي بلد أوروبي تمثل للأتراك فرصة تزداد أهميتها مع تجدد أزمات الاقتصاد التركي بشكل متكرر.

وفي الوقت ذاته كان حكام تركيا الجدد يرغبون في تسجيل إنجاز يحسب للإسلام السياسي وتياره الناشئ في تركيا، لكن الأوروبيين رأوا أن ملف تركيا لا يؤهلها للحصول على شرف وامتيازات الانضمام إلى اتحادهم، وبخسارة أردوغان لهذا الملف الاستراتيجي قرر التعويض عنه بنفخ العنصرية مجدداً في الروح التركية ورفع الروح المعنوية والمشاعر القومية من خلال الاتجاه نحو إشباع غروره بإيجاد نفوذ لتركيا في المنطقة العربية.

بينما ظن بعض المغفلين والمطبلين لأوهام الخلافة أن النفوذ التركي لمصلحة العرب، ولم يدركوا أنه مجرد نزوة في رأس أردوغان الحالم بصناعة مجد شخصي يؤهله للبقاء أطول فترة ممكنة على رأس السلطة، بعد أن بدأت أوراق شرعيته تتساقط رغم محاولته تجديدها بانتظام عبر تحايلات انتخابية وتعديلات دستورية وإزاحة للمنافسين الأقوياء الذين يزاحمونه ويسرقون منه الشعبية داخل التيار الإخواني ممثلا بحزب العدالة والتنمية.

وفي الواقع عندما نقوم بمسح سريع لمظاهر النفوذ التركي في منطقتنا العربية، وبحسابات الربح والخسارة، نجد أن تركيا تستغل نقاط الضعف وتلعب على التناقضات لكي تخرج مستفيدة من التدخلات التي تقوم بها.

وبذلك يصبح التوغل والاستغلال الانتهازي هما التوصيف الأكثر دقة للعلاقات الطارئة التي ربطت بين كل من تركيا والنظام القطري، إلى جانب بعض الأنظمة الأفريقية الفاشلة التي تم اختراقها مثل السودان والصومال.

وهناك حقيقة مؤكدة لا بد أن يستوعبها من يتعاطون مع التدخلات التركية في المنطقة العربية بمزاج عاطفي قليل الخبرة بأحداث التاريخ. تلك الحقيقة تشير بوضوح إلى أن تركيا لن تكون حليفا مخلصا للعرب مهما تقربت إليهم باسم الدين والإسلام السياسي والسياحة، وكذلك عبر الدراما التي اخترقت وسائل الإعلام، وتحولت إلى مورد اقتصادي وأداة لاختراق المجتمعات العربية ثقافيا.

لقد عادت تركيا -منذ صعود تيار الإسلام السياسي إلى الحكم- إلى استثمار العاطفة الدينية، وأصبحت ترى في المنطقة العربية سوقاً مفتوحة لتصدير ثقافتها وفنونها، بالإضافة إلى محاولة اجتذاب رؤوس الأموال الإخوانية والاستفادة من الموارد السياحية وجذب السياح العرب، رغم أن هناك شواهد لا حصر لها من الماضي والحاضر تؤكد أن تركيا لم ولن تكون جادة في إقامة علاقات شراكة ندية مع العرب، لا في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل.

وعندما نرى رد الفعل العاطفي المنخدع بالأهداف والغايات الخبيثة لتركيا، نكتشف أن تجاهلنا للغزو الثقافي والإعلامي التركي كان بداية الخطر الذي تسلل بالفعل خلال العقدين الماضيين، وذلك عبر أدوات ومنافذ اقتصادية وإعلامية وسياحية.

وحتى الآن هناك صورتان لتركيا؛ الأولى مثالية للغاية، يتداولها المتأسلمون إلى جانب المخدوعين الذين استغرقوا الساعات الطوال في مشاهدة المسلسلات التركية المدبلجة، بالإضافة إلى نوع آخر من الدراما التركية السياسية التي يظهر فيها أردوغان بصورة مثالية، لكن تلك الصورة تخفي الوجه الآخر للعنف والوحشية والممارسات القاسية بحق العرب.

وكما روّج من يهيمون غراما بتركيا العثمانية الجديدة لمقاطع مصورة يظهر فيها أردوغان وهو يحنو على بعض الأطفال السوريين اللاجئين، كان على من تابعوا تلك المشاهد ونزلت دموعهم تأثرا بحنان أردوغان وعطفه أن يشاهدوا مقاطع أخرى مصورة، توضح كيف يتعامل حراس الحدود التركية مع اللاجئين السوريين، وعليهم أيضا أن يتساءلوا كم بلغ عدد الضحايا الذين سقطوا برصاص الجنود الأتراك، وكم أصيب من اللاجئين الذين تعرضوا للضرب بأعقاب البنادق أثناء منعهم من دخول الأراضي التركية.

تلك الصورة الرومانسية لتركيا تتمزق وتختفي تماماً لأن هناك صورة أخرى يعرفها المطّلعون على التاريخ بتجرد، وهي أن النزعة التركية العنصرية تنظر إلى العرب بحقد، لأن الإسلام الذي انتشر من الجزيرة العربية وتمكن من بسط العرب إلى ما وراء حدودهم قضى على الحضارات القديمة، ومن ضمنها التحول الذي فرضته الحضارة الإسلامية على الفرس والأتراك.

هذه الصورة الحقيقية التي تجعل تركيا، مثل إيران، مشحونة بالحقد على العرب يعرفها المؤرخون الذين تتبعوا وقائع القرون الفائتة وأحداثها التي لعب فيها الفرس والأتراك أدواراً سلبية وكارثية، رغم أنهم أصبحوا ينتمون إلى أمة الإسلام، لكن النزعة القومية ظلت ولا تزال كامنة وفاعلة تتحكم في موقفهم وسياساتهم تجاه العرب حتى اليوم.

هذه النظرة الشعوبية المتخلفة التي تتحكم في سلوكهم السياسي ذات بعد عنصري، ويجب على من يحاول فضحها والرد عليها ألا يقع في الخطأ ذاته، وبالتالي تبقى مهمة من يفحص أحداث التاريخ أن يسردها كما هي، بهدف كشف الحقائق وتوعية الجمهور الذي ينخدع بسهولة.

وبالإشارة إلى وقائع الماضي، المعروف أن الأتراك في عهد الدولة السلجوقية لعبوا دورا في تسهيل عبور الصليبيين إلى بلاد الشام، إذ ترصد أحداث التاريخ أن السلطان السلجوقي المسلم قلج أرسلان كان يهرب من أمام الصليبيين ويدع المناطق والمدن تسقط في طريقهم تاركاً وراءه أثناء هروبه واستسلامه الكثير من الغنائم لهم.

وتحكي كتب التاريخ أن السلاجقة الأتراك توقفوا عن قتال الصليبيين بشكل مباشر واستمروا بالانسحاب وإخلاء المدن، فاكتسحها الصليبيون بكل سهولة باتجاه بلاد الشام. ولا يزال التاريخ يرسل دروسه إلى الحاضر ويحذرنا من تكرار الخطأ.

المصدر : جريدة العرب .