Tev-Dem

كلمة للمؤرخ التركي ’’ تانير أكشم ’’ أمام البرلمان السويدي بمناسبة الذكرى 103 للإبادة الجماعية للأرمن

525

إن هذه الدعوة للتحدث أمام البرلمان السويدي تحمل معنى رمزيا، ليس فقط على المستوى الفردي، ولكن حقيقة توجيه دعوة لمواطن تركي للحديث أمامكم هنا اليوم تنقل رسالة ذات مغزى للمهتمين بالشأن التركي.

إن هويتنا تتحدد بالمواقف التي نتخذها. والحديث علنا عن جرائم تاريخية، وبشكل خاص الإبادة الجماعية، إنما هو مسؤولية البشرية جمعاء، حيث إن هذه ليست قضية الأرمن والأتراك، أو اليهود والألمان وحدهم.
إن القضايا الرئيسة التي ينبغي على الأتراك مواجهتها تتمثل في عدم قدرتنا أو رفضنا الاعتراف بالعنف الذي ارتكبناه، وبشكل خاص، المذابح والإبادة الجماعية التي ارتُكبت ضد المواطنين المسيحيين من الأرمن والآشوريين واليونانيين.
وفي حين أن تركيا لا تتفرد وحدها بأعمال العنف التي تُرتكب على نطاق واسع، فإنها سمة رئيسة للاضطراب الذي يميز الشرق الأوسط.
وعلى الرغم من صعوبة تحديد تاريخ البداية والنهاية بالنسبة للعمليات التاريخية، فإن الأراضي العثمانية-التركية عانت في الفترة؛ ما بين مؤتمر برلين في عام 1878 وتأسيس الجمهورية التركية في عام 1923، من موجات من الاضطراب، كما عانت من زلزال يتألف من سلسلة من المذابح التي شكلت عملية الإبادة الجماعية. وتمثل المذابح التي وقعت ما بين عامي 1894 و1896 للأرمن والآشوريين، ومذبحة ساسون في عام 1904، ومذبحة أضنة في عام 1908 للأرمن، والتطهير العرقي ومذابح اليونانيين في عامي 1913 و1914، والإبادة الجماعية للأرمن والآشوريين ما بين عامي 1915 و1918، والإبادة الجماعية لليونانيين البنطيين بين عامي 1921 و1922، الهزات الأقوى لهذا الزلزال.
واستمر الزلزال الذي استغرق 45 عاما (1878-1923)، والذي يتسم بالإبادة العثمانية للمسيحيين، خلال فترة الجمهورية على فترات مختلفة. وتمثل القضية اليهودية في عام 1943 في تريسي، والإبادة الجماعية في ديرسِم في عامي 1937 و1938، وضريبة الأملاك في عام 1942، وبرنامج 6 و7 سبتمبر في عام 1955، وذبح الشباب المثقف في عام 1960، والانقلاب العسكري الذي وقع في عام 1971 وذلك الذي وقع في عام 1980، وحالات قمع الأكراد التي لا تنتهي، بما في ذلك حالات القتل والتعذيب الممنهج للأكراد في عقد التسعينيات وفي عام 2015، بعض الأمثلة على هذا الاستمرار.
واليوم، إذا كانت تركيا تكافح من أجل إقامة نظام يحترم حقوق الإنسان، ويستمر في مواجهة عقبات كبرى في إضفاء الطابع الديمقراطي، فإن هذا يرجع إلى رفض مواجهة الجرائم التي ارتكبت في الماضي. والأكثر من ذلك، فإن التحديات غير مقصورة على الشؤون الداخلية لتركيا، لكن تمتد أيضا إلى المنطقة الأوسع. والعمليات العسكرية في سوريا والحرب مع الأكراد، تعد أيضا من مظاهر هذا العجز عن مواجهة الماضي.
ويثير هذا الوضع سؤالا رئيسا ألا وهو: لماذا ينبغي علينا أن نواجه تاريخنا؟ ولماذا يجب علينا إحياء ذكرى وتذكر الجرائم التي وقعت في الماضي؟
اسمحوا لي أن أقدم خمسة أسباب أساسية ومترابطة في نفس الوقت للإجابة على هذين السؤالين:
• أول سبب مهم وراء “لماذا يجب علينا تذكر وإحياء ذكرى الأعمال الوحشية التي ارتكبت في الماضي؟” هو أنه يجب علينا تذكر الضحايا، وتقديم العزاء لذكراهم، وإعادة إضفاء الطابع الإنساني عليهم. إن نزع الصفة الإنسانية ضروري لارتكاب الأعمال الوحشية الجماعية. والسبيل الأكثر فاعلية لحث الجناة لارتكاب أعمال القتل هو نزع صفة الإنسانية عن ضحاياهم. وهذه هي الطريقة التي يتخطى بها الأفراد نفورهم البشري الطبيعي تجاه القتل. فقد صنف النازيون اليهود على أنهم بكتيريا أو ميكروبات أو جراثيم، وفي رواندا، وصف الهوتو التوتسي بأنهم صراصير. ووصف الحكام الأتراك العثمانيين الأرمن بأنهم ورم خبيث في الجسد التركي يجب استئصاله. وعن طريق حرمان جماعة الضحايا من إنسانيتها، فإن الجناة يمهدون الطريق نحو ارتكاب أعمال وحشية جماعية. وإعادة إضفاء الطابع الإنساني على الضحايا عن طريق تكريمهم واستعادة كرامتهم واحدة من الخطوات الأكثر أهمية فيما يتعلق بإدانة الجناة.

• السبب الثاني لإحياء هذه الذكرى هو أنها تُرسي أسس التعايش المشترك. حيث يمكن للمجتمعات التي عانت من ماض مؤلم مليء بأعمال عنف أن تتصالح وتعيش معا بسلام إذا ما “تحدثوا” عن هذا الماضي المشترك مع بعضهما البعض. وإذا ما فشلوا في الحديث عن الماضي المشترك، فإن كل طرف منهم سيواصل النظر إلى الطرف الآخر بريبة وشك، وفي نهاية المطاف ستسحقهم أعباء الماضي. وإذا لم يستطع الأتراك القيام بتصفية حساب صادقة لجرائمهم، والدخول في حوار جاد مع الأرمن واليونانيين والآشوريين، والإنصات إلى تواريخ هذه المجتمعات ذات الألم العميق، فإن مجموعات الضحايا لن تشعر أبدا بأي إجراء من الثقة بالنسبة للأتراك. والسبيل الوحيد أمام الأتراك لتحقيق التعايش السلمي في بلدهم، ومع جيرانهم، هو أن تعترف الحكومة التركية وشعبها (بمن في ذلك الأتراك، والأكراد، والعلويين، والسنة.. إلخ) بصدق بالأخطاء التاريخية، وقبول مسؤولية أعمالهم. وبدون المواجهة الصادقة وقبول هذا التاريخ المؤلم، فلن يكون هناك بناء مستقبل مشترك على الإطلاق.
• والسبب الثالث وراء “لماذا يجب علينا مواجهة التاريخ؟” هو كما يلي: نحن نتذكر الماضي ونحيي ذكرى الأعمال الوحشية الجماعية، لأن هذا يعد أحد المتطلبات الأساسية للمجتمع الديمقراطي. ولإقامة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان، فمن الضروري في البداية مواجهة انتهاكات حقوق الإنسان. ويعوق الإخفاق في تحقيق هذا، والإفلات من عقوبات الجرائم التي وقعت في الماضي، التزام الأمة باحترام حقوق الإنسان الحالية. وستحدد أيضا كيفية رؤيتك واعتبارك للماضي أيضا كيفية خلق مستقبلك.. والاعتراف بالمظالم التاريخية ضروري لإقامة بيئة ديمقراطية يمكنها تقدير قيمة حقوق الإنسان.
• والسبب الرابع الرئيسي لتذكر الماضي وتكريمه هو رفع أصواتنا لنقول إن هذا “لن يحدث مرة أخرى!” ولتجنب الأعمال الوحشية الجماعية، يجب علينا أن نتذكر! لكن التذكر فقط ربما يكون غير كافٍ لمنع تكرار مثل هذه المظالم، على الرغم من كونه شرطا مسبقا مهما. ويترك إنكار الأخطاء التاريخية الباب مفتوحا على مصراعيه لخطر محتمل يتمثل في تكرار نفس الجرائم ونفس الأخطاء مرة أخرى. وبإنكار تركيا للمذابح والجرائم، فإنها ترسل رسالة بأنها سترتكب نفس الجرائم مرة أخرى، إذا ما تعرضت للتهديد. ولهذا السبب، فليس من قبيل المبالغة الادعاء بأن تركيا تمثل تهديدا محتملا على المنطقة بأكملها.
• وخامس الأسباب المهمة لإحياء ذكرى الأعمال الوحشية الماضية هو مكافحة الإنكار وتخطي عراقيل الماضي بحثا عن الحقيقة والعدالة. ويعد هذا المبدأ الأساسي حاسما، حيث إنه يدل بصورة فعالة على أن الاعتراف بجريمة تاريخية غير مقصور على تذكر حدث من الماضي، لكنه يشكل مطلباً لتعزيز السلام والأمن والاستقرار في أيامنا هذه.
وهناك نقطتا سوء فهم رئيستان في ما يتعلق بإنكار الإبادة الجماعية، وبشكل خاص، الإنكار التركي لارتكاب هذه الإبادة. أولا، يعتبر الإنكار في الغالب توجها إيديولوجيا خاطئا، لكنه متسامح تجاه الأعمال الوحشية الجماعية. وتتعلق النقطة الثانية لسوء الفهم بالنقطة الأولى، وتفترض أن إنكار المواجهة يكون عن تشكيل موقف “أخلاقي” تجاه جريمة واحدة تظل منسية في صفحات التاريخ.
وأي ارتباط مع الحاضر يتم فصله بجدران بصورة فعالة.
وهذان التصوران الخاطئان ما هما إلا نتيجة منطقية لما أطلقت عليه تقسيما مؤقتا: وتحديدا، الميل إلى وضع الماضي والحاضر في صندوقين مختلفين، وتجاهل الترابط بينهما. ويمثل قطع العلاقات بين الإنكار والمشاكل السياسية المعاصرة إشكالية كبرى. فالإنكار ليس فقط عن توجه إيديولوجي نحو الماضي، ولا يقتصر طلب الاعتراف بالجرائم التاريخية على قناعة أخلاقية (أو تأدية قداس يوم الأحد في الكنيسة) في ما يتعلق بالأحداث الماضية.
والإنكار عبارة عن هيكل لا يمكنه أن يحذف ببساطة الأعمال الوحشية التي ارتكبت في الماضي. والهيكل الإنكاري أنتج ويواصل إنتاج سياسات في عصرنا الحالي. وفي هذا الصدد، سيكون من المناسب والمعقول مقارنة الإنكار التركي بنظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا. فالنظام، وعقلية، ومؤسسات نظام التمييز العنصري تأسست جميعها على الاختلافات العرقية، ولإنكار الإبادة الجماعية الأرمينية نفس الجذور. فقد تم اختلاقه بناء على التمييز واستبعاد الأقليات العرقية – الدينية واعتبار أن المطالب الديمقراطية لهذه الجماعات تمثل تهديدا للأمن القومي يجب القضاء عليه.
وظهر ما يطلق عليه “القضية الأرمينية” في الماضي نتيجة لمطالب الأرمن بالمساواة والإصلاح الاجتماعي، والتي يمكن القول إنها كانت ستؤدي إلى مجتمع عثماني أفضل وأقوى مما هو عليه الآن.
وعلى الرغم من ذلك، فإن مطالب الأرمن، والأرمن أنفسهم، اعتبروا تهديدا للأمن، وقد تسبب هذا في أن يصبحوا أهدافا للمذابح وعمليات الترحيل. ويشكل إنكار هذه الحقيقة أساس الفكرة التركية للأمن، والتي لم تتأسس فقط على إنكار الجرائم، بل على إدراك أن الترويج للمطالب الديمقراطية الأساسية، مثل المساواة أمام القانون، والإصلاح الاجتماعي، وحرية التعبير تمثل جميعها تهديدا للأمن القومي.
وتكمن المفارقة هنا في أن إنكار الإبادة الجماعية وتجريم المطالب بمجتمع أكثر ديمقراطية وعدالة بسبب الأمن القومي هي العراقيل الحقيقية في طريق الديمقراطية.
ويؤدي الرد التركي العنيف على مطالب حقوق الإنسان إلى نتائج عكسية. وفي الحقيقة، فقد أدى هذا الرد مباشرة إلى حدوث مشاكل أمنية حقيقة.
وكان “تحقق النبوءة” هذا هو السبب الجذري للإبادة الجماعية للأرمن، وشكل المشكلة الكردية حاليا.
وبدلا من حل المشاكل الكردية عن طريق البحث عن حلول يمكن أن تؤدي إلى مجتمع أكثر ديمقراطية، فقد بعث الإنكار ذو الطابع المؤسسي نفس الفكرة الأمنية، وأعلن أن المطالب الكردية تمثل مشكلة أمنية أساسية للأمة. وتعتبر هذه هي القصة القصيرة لغزو الجيش التركي لسوريا.
والصورة واضحة جدا: فعن طريق إنكار ما حدث في عام 1915، أعادت تركيا إنتاج المؤسسات، والعلاقات الاجتماعية، والعقلية التي خلقت أحداث عام 1915 في المقام الأول.
والإنكار ليس ببساطة دفاعا عن نظام قديم (الإمبراطورية العثمانية). إن الإنكار يغذي أيضا سياسات العدوان المتواصل داخل تركيا وخارجها اليوم.
عرض الترابط القوي بين إنكار تركيا للإبادة الجماعية للأرمن والسياسات المحلية والإقليمية لتركيا حاليا ليس صعبا.
وبدون الخوض في تفاصيل التطورات المظلمة المستمرة في تركيا اليوم، وبشكل خاص منذ محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في يوليو عام 2016، اسمحوا لي أن أُعبر عن الوضع الراهن بالأرقام.
يوجد حاليا أكثر من عشرة من نواب البرلمان، وقرابة 150 صحفيا في السجن، كما أُجبر حوالي أربعة آلاف أكاديمي على الاستقالة من مناصبهم، وتم تدمير مدن كردية وحرقها وتسويتها بالأرض.
وطبقا لتقرير نشره مفوض مجلس أوروبا لحقوق الإنسان في عام 2017، فقد تم إغلاق 158 شركة إعلامية، من بينها 45 صحيفة، و60 قناة تلفزيونية ومحطة إذاعية، و19 دورية، و29 دار نشر، و5 وكالات أنباء.
وبالإضافة إلى هذه الحقائق، فإن تركيا تعاني من هجرة جماعية للنخبة المثقفة في البلاد – ربما تكون الأكبر في تاريخ البلاد.
وفر بالفعل أكثر من ألف أكاديمي، وصحفي، ومفكر ثقافي إلى أوروبا.
وتركض تركيا نحو نظام استبدادي، إن لم تكن قد أصبحت تحت هذا النظام بالفعل.
واستخدمت الحكومة التركية محاولة الانقلاب كذريعة لقمع المعارضة الديمقراطية، وحجة الحكومة الرئيسة في دعم هذه السياسات هي أن طلب المزيد من الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، يمثلان تهديدا على الأمن القومي وينبغي قمعهما قبل انتشارهما.
ويمثل العدوان على سوريا جزءا آخر من سياسة الأمن القومي التركي هذه. وقامت تركيا بغزو سوريا عندما أدركت أن المطالب الكردية من أجل بناء ديمقراطي في سوريا أو في تركيا تمثل تهديدا للأمن القومي.
وكان ضياء كوك ألب، أحد الإيديولوجيين في حزب تركيا الفتاة وأحد مهندسي السياسات العثمانية المتأخرة، قد وصف العدوان العثماني على الشرق خلال الحرب العالمية الأولى وشبهه بأنه “تفاحة حمراء”.
وتمثل “التفاحة الحمراء” معتقدا يعود تاريخه إلى تقاليد تركية قديمة، وتهدف إلى انعكاس الهيمنة التركية على العالم. وعند الحديث عن المعارك والانتصار، فإن الأتراك العثمانيين يشبهون انتصارهم بأنهم وصلوا إلى “التفاحة الحمراء”. وأصبحت “التفاحة الحمراء” ترمز إلى فكرة القومية التركية، وتوحيد جميع الشعوب التركية.
ومعرفة هذه الأسطورة حاسمة لفهم الإبادة الجماعية للأرمن. ويكشف هذا بشكل كبير عن إشارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى هذا الرمز الأسطوري قبيل شن عملية عفرين 2018 في سوريا.
وفي كلمة ألقاها في 22 يناير الماضي، جاوب أردوغان على سؤال “إلى أين نذهب؟” قائلا “نحو التفاحة الحمراء.. نعم، نحو التفاحة الحمراء”.
ويضع مجلس الأمن القوي، وهو أعلى مؤسسة دستورية في تركيا، تصورات جميع هذه السياسات ويقررها وينفذها.
وفي عام 2001، أنشأت هذه الهيئة الدستورية العليا “لجنة تنسيق لمكافحة ادعاءات الإبادة الجماعية التي لا أساس لها.” وجميع الوزراء المهمين، بمن فيهم القوات المسلحة، ممثلين في هذا اللجنة، التي يترأسها نائب رئيس الوزراء. والمهمة الوحيدة لهذه المؤسسة هي مكافحة أولئك الذين يطالبون بالاعتراف بالأعمال الوحشية الجماعية بما في ذلك الإبادة الجماعية للأرمن، التي ارتكبتها الحكومات العثمانية – التركية المتعاقبة في الماضي. وليس من قبيل المصادفة أنها هي نفس المؤسسة التي تدرس الطلبات الديمقراطية للأكراد، والعلويين، والأقليات الأخرى، كما تدرس كون التطورات الإقليمية في سوريا تمثل تهديدا للأمن القومي.
والصورة واضحة: طالما أن تركيا تواصل اعتبار أن مواجهة الظلم التاريخي بأمانة والاعتراف بارتكاب أخطاء يمثلان تهديدا للأمن القومي، وترفض قبول ماضيها لأسباب تتعلق بالأمن القومي، فإن نتيجة ذلك هي حدوث المزيد من المشاكل الأمنية.
إن الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن ليس شيئا من الماضي يمكن نسيانه عند مواجهة ما يبدو أنه قضايا أكثر إلحاحا اليوم. بل على العكس، إن هذا الاعتراف هو المفتاح لحل المشاكل الأمنية المعاصرة.
وكما اتضح في القضية التركية، وكما تُبين التطورات الأخيرة بوضوح، فإن هناك رابطة قوية بين الأمن، والديمقراطية، ومواجهة التاريخ في الشرق الأوسط. وحتى مع إلقاء نظرة خاطفة على المنطقة، يتضح جليا أن المظالم التاريخية والإنكار المستمر لها من قبل دولة أو أخرى، أو من قبل جماعة عرقية – دينية، ما هي إلا حجر عثرة ضخم، ليس فقط في طريق إرساء الديمقراطية في المنطقة، لكن أيضا في طريق إقامة علاقات مستقرة بين مختلف الجماعات العرقية والدينية.
ولا يمكنكم حل أي مشكلة في الشرق الأوسط اليوم بدون مواجهة الأخطاء التاريخية، لأن التاريخ ليس دربا من دروب الماضي، فالماضي في الشرق الأوسط هو الحاضر.
وثمة طريقة أخرى تتمثل في أن إحدى المشكلات الرئيسة في المنطقة هي انعدام الأمن الذي تشعر به الجماعات والدول المختلفة تجاه بعضها البعض نتيجة الأحداث التي شهدها التاريخ. وعندما يكون الإنكار المستمر لهذه الأفعال المليئة بالألم أساسيا بالنسبة لسياستك الأمنية، تصبح مشاعر انعدام الأمن تجاه الآخر حتمية. وهذا ما نطلق عليه معضلة أمنية: إن ما يفعله المرء لتعزيز أمنه يتسبب في رد فعل، يمكن أن يؤدي في النهاية إلى جعل المرء أقل أمنا. ولهذا السبب، فإن أي فكرة أمنية، وأي سياسات في السياسة الواقعية في المنطقة، أو من أجلها، تشوش على الأعمال العدائية التي وقعت في الماضي، وتتجاهل التعامل مع هذه الأخطاء التاريخية، محكوم عليها بالفشل في النهاية.
وينبغي علينا إيقاف هذه التفرقة التي لا معنى لها، والتقسيم بين الاعتراف بالأحداث التي وقعت في عام 1915، والسياسة الواقعية المعاصرة. وحتى يومنا هذا، فإن الغرب إما فشل في الاعتراف بأحداث عام 1915 لأسباب “أمنية” و”مصلحة قومية”، أو حتى في بعض الحالات، حيث صادق على بعض القرارات البرلمانية المتكلفة، استمر في تنفيذ سياسات منحت الدعم والغطاء السياسي لتركيا. وإذا كانت الديمقراطية، والسلام والأمن هم الهدف النهائي لسياسة الغرب تجاه الشرق الأوسط، فينبغي إنهاء هذا النمط من السلوك.
وهذا التوجه وسلوك الغرب هو الذي شجع تركيا على مواصلة إنكارها لأحداث عام 1915 وشجعها على مواصلة سياساتها التي تهدد الديمقراطية والسلام والأمن في المنطقة اليوم.
ويجب ألّا ننسى أن الإنكار ليس مشكلة تقتصر على تركيا وتاريخها فقط. إنها مشكلة أوروبا المشتركة والأساسية فيما يتعلق بمستقبلها والسلام والأمن الإقليميين. وإذا لم نكافح من أجل مواجهة ماضينا، وإذا لم نكافح ضد الإنكار وجعل هذا الكفاح في مركز اهتمامنا، فإننا لن نفشل اليوم فقط، لكن نخاطر أيضا بخسارة مستقبلنا. ولا يوجد اختلاف بين مكافحة الإنكار التركي ومكافحة نظام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا. فالتمييز العنصري لم ينهَرْ بسبب الضغط الداخلي فقط، فقد كان لتأييد المجتمع الدولي أيضا أهمية كبرى. وأنا أناشدكم من هذه المنصة اليوم للقضاء على هذا التقسيم الضار بين الماضي والحاضر لإدراك خطورة الإنكار ومدى تأثيره.
وإذا كنا نرغب في احترام كرامة الضحايا، وإقامة العدل، وخلق ديمقراطية وسلام واستقرار في المنطقة، ووقف الأعمال الوحشية الجماعية في المستقبل، فينبغي علينا أن نكافح الإنكار، ليس فقط كتوجه نحو جريمة وقعت في الماضي، لكن أيضا كجريمة ضد الكرامة الإنسانية اليوم.